فصل: قال دروزة:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



.قال المظهري:

سورة الفلق:
مدنيّة.
وهى خمس آيات.
بسم الله الرحمن الرحيم
أخرج البيهقي في دلائل النبوة من طريق الكلبي عن أبى صالح عن ابن عباس قال مرض رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم مرضا شديدا فاتاه ملكان فقعد أحدهما عند راسه والاخر عند رجليه فقال الذي عند رجليه للذى عند راسه ما ترى قال طب قال ما طب قال سحر قال من سحره قال لبيد بن الأعصم اليهودي قال اين هو قال في شراك فلان تحت صخرة في ركية فاتو الركية فانزحوا وارفعوا الصخرة ثم خذوا الكدية وأحرقها فلما أصبح رسول اللّه صلى اللّه تعالى عليه واله وسلم بعث عمار بن ياسر في نفر فاتوا الركية فإذا ماءها مثل ماء الحناء ثم رفعوا الصخرة واخرجوا الكدية واحرقوها فإذا فيها وتد فيه أحد عشر عقدة وأنزلت عليه هاتان السورتان فجعل كلما قرأ اية انحلت عقدة قل أعوذ برب الفلق قل أعوذ برب الناس وأخرج أبو نعيم في الدلائل من طريق أبى جعفر الرازي عن أنس قال صنعت اليهود لرسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم شيئا فاصابه من ذلك وجع شديد فدخل عليه أصحابه فظنوا انه المايه فاتاه جبرئيل بالمعوذتين فعوذبهما فخرج إلى الصحابة صحيحا وله شاهد في الصحيحين بدون نزول السورة وذكر البغوي قول ابن عباس وعائشة كان غلام من اليهود يخدم رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذوا مشاطة راس النبي صلى اللّه عليه واله وسلم وعدة أسنان مشطة فاعطاها اليهود فسحروا فيها وتولى ذلك لبيد بن الأعصم رجل من اليهود فنزلت السورتان وروى البغوي بسنده عن عائشة ان النبي صلى اللّه عليه واله وسلم طب حتى انه ليخيل انه قد صنع شيئا وما صنعه وانه دعا ربه ثم قال ان اللّه أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة وما ذاك يا رسول اللّه قال جاءنى رجلان فجلس أحدهما عند راسى والاخر عند رجلى فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل قال الاخر مطبوب قال من طبه قال لبيد بن الأعصم قال فيما ذا قال في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر قال فاين هو قال في ذروان بير بنى زريق قالت عائشة فاتاها رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال واللّه لكان ماءها نقاعة الحناء ولكان نخلها رؤس الشياطين فقلت يا رسول اللّه فلا أخرجته قال اما انا قد شفانى اللّه كرهت ان اثير على الناس شرا قال البغوي وروى انه كان تحت صخرة في البير فرفعوا الصخرة واخرجوا جف الطلعة فإذا فيه مشاطة راسه وأسنان مشطة وروى البغوي بسنده عن يزيد بن أرقم قال سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود فاشتكى لذلك إياها قال فاتاه جبرئيل فقال ان رجلا من اليهود سحرك فعقد لك عقدا فارسل رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم عليا فاستخرجها كلما حل عقد وجد لذلك خفة فقام رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم كانما نشط عن عقال فما ذكر ذلك اليهودي ولا راه في وجهه وأخرج ابن مردوية والبيهقي في الدلائل عن عائشة ان يهوديا سحر النبي صلى اللّه عليه واله وسلم في أجد عشر عقدة في وتردسه في بير فمرض النبي صلى اللّه عليه واله وسلم ونزلت معوذتان وأخبره جبرئيل بموضع السحر فارسل عليا فجاء به فقرأهما عليه فكان كلما قرأ اية انحلت عقدة ووجد بعض الخفة وروى انه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلث ليال فنزلت معوذتين وروى مسلم عن أبى سعيد ان جبرئيل أتى النبي صلى اللّه عليه واله وسلم فقال يا محمد اشتكيت فقال نعم قال بسم اللّه أرقيك من كل شيء يؤذيك من شر كل نفس أو عين حاسد اللّه يشفيك بسم اللّه أرقيك قوله تعالى: {قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ} أي فلق الصبح وهو قول جابر بن الحسن وسعيد بن جبير ومجاهد وقتادة من قوله تعالى فالق الإصباح وقيل فلق الحب والنوى بالشطا والسحاب بالماء والأرض بالعيون والأرحام بالأولاد وقال الضحاك يعنى الفلق وهى رواية الوالبي عن ابن عباس والمشهور هو الأول وقال اكثر المفسرين وهى رواية عن ابن عباس انه سجن في جهنم رواه ابن جرير وقال الكلبي واد في جهنم وأخرج ابن جرير عن أبى هريرة عن النبي صلى الله عليه وسلم قال الفلق جب في جهنم مغطى.
وأخرج ابن جرير والبيهقي عند عبد الجبار الخولاني قال قدم علينا رجل من اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه واله وسلم في دمشق فراى ما فيه الناس من الدنيا قال وما يغنى عنهم أليس ورائهم الفلق قالوا وما الفلق قال جب في النار إذا فتح هرب منه أهل النار وأخرج ابن أبى حاتم وابن أبى الدنيا وأيضا عن عمرو بن عتبة قال الفلق بير في جهنم اذا سعرت جهنم فمنه تسعر جهنم لتتاذى منه كما يتاذى بنو آدم من جهنم عليها الغطاء فإذا كشفت عنه خرجت منه نار تصيح منه جهنم من شدة حرما يخرج منه وأخرج ابن أبى حاتم وابن جرير عن كعب قال الفلق بيت في جهنم اذا فتح صاح أهل النار من شدة حره وأخرج ابن أبى حاتم عن زيد بن علي عن ابائه الكرام الفلق جب في قعر جهنم وانما خص ذكر اللّه سبحانه في الاستعاذة بهذه الصفة لأن جهنم والفلق الذي هو أشد من اجزائه لما كان أدهى الا داهى وأعظم الأشياء شرا فخالقه وربه اقدر على دفع كل شر وان كان المراد بالفلق الصبح فالصبح دافع ومظهر الشرور غسق الليل فربه قادر على دفع كل شر فذكره تعالى بهذه الصفة داع إلى دفع الشرور واللّه تعالى أعلم.
مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ أي من شر كل مخلوق فان الممكن لا يخلو من شر لأن العدم داخل في ماهيته غير انه كلما استضاء بالتجليات الذاتية والصفاتية زال شره وتبدل بالخير أولئك يبدل اللّه سياتهم حسنات وقال عليه الصلاة والسلام اسلم شيطانى فلا يأمرنى الا بخير قال البيضاوي خص عالم الخلق بالاستعاذة منه لانحصار الشر فيه فان عالم الأمر خير كله وشر عالم الخلق اما اختياري لازم كالكفر متعد كالظلم واما طبيعى كاحراق النار وإهلاك السموم.
وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ الغسق معناه الامتلاء قال اللّه تعالى انى غسق الليل أي امتلاءها ظلمة ويقال غسق العين إذا امتلئت دمعا وغسق القمر إذا امتلأ نورا وفى القاموس الغاسق القمر والليل إذا غاب الشفق والغسوق والاغساق الاظلام وقيل معناه السيلان غسق الليل الضباب ظلامه وغسق العين سيلان دمعه وغسق القمر سرعة سيره وقيل الغسق البرد سمى الليل غاسقا لانها أبرد من النهار والقمر غاسقا لكونه أبرد من الشمس ولهذا يقال للقمر الزمهرير والمراد بالغاسق هاهنا القمر لحديث عائشة قالت أخذ النبي صلى اللّه عليه وآله وسلم بيدي فنظر إلى القمر فقال: «يا عائشة استعيذى باللّه من شر غاسق إذا وقب» رواه البغوي بسنده فعلى هذا التقدير معنى قوله تعالى إِذا وَقَبَ إذا دخل في الخسوف وأخذ في الغيبوبة فان القمر لا يتخسف الا عند امتلاء نور الليلة البدر قال ابن عباس والحسن ومجاهد المراد به الليل إذا اقبل ودخل سواده في ضوء النهار وقال ابن زيد المراد به الثريا إذا أسقطت يقال الانتظام تكثر عند وقوعها وترفع عند طلوعها.
{وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ}
يعنى النفوس السواحر أو النساء الساحرات اللاتي ينفثن في عقد الخيط حين يرقين ويسحرن النبي صلى الله عليه وسلم قال أبو عبيد بناته بامره.
{وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}
أى إذا اظهر حسده وعمل في الإضرار بمقتضى حسده وانما قيد به لأن ضرر الحسد قبل ذلك يعود إلى نفس الحاسد لاغتمامه لسرور غيره ولا يتجاوز إلى المحسود انما خص هذه الأشياء بالذكر بعد التعميم بقوله من شر ما خلق لكون دخل هذه الأشياء الثلاثة في هذا الشر المخصوص اعنى سحر النبي صلى الله عليه وسلم ووسوسة شيطان الجن اعنى إبليس وشيطان الانس اعنى لبيد بن الأعصم أورد النفاثات بصيغة الجمع ولام العهد بخلاف غاسق وحاسد حيث أوردهما منكرا إذا الغرض في الاستعاذة ملاحظة بنات لبيد بالتخصيص والتعين بخلاف غاسق وحاسد فان الغرض هناك استعاذة من شر أي غاسق وحاسد كان لأن حساد النبي صلى اللّه عليه واله وسلم كانوا اكثر من ان يحصى وكانوا دائمين في الحسد فاستعاذ منهم على وجه يأمن من شرهم في المستقبل أيضا عن عقبة بن عامر قال قلت يا رسول اللّه اقرأ سورة هود وسورة يوسف قال لن تقرأ شيئا ابلغ عند اللّه من قل أعوذ برب الفلق رواه أحمد والنسائي والدارمي واللّه تعالى أعلم. اهـ.

.قال دروزة:

سورة الفلق:
في السورة تعليم رباني بالاستعاذة باللّه من أسباب المخاوف والهواجس في معرض تدعيم وحدة اللّه ونبذ ما سو اه. وبعض الروايات تذكر أنها مكية وبعضها تذكر أنها مختلف في مكيتها ومدنيتها، ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكها في سلك السور المكية المبكرة في النزول، وأسلوبها يسوغ ترجيح مكيتها وتبكير نزولها.
ولقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان النبي صلى الله عليه وسلم إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذتين وينفث فلما اشتدّ وجعه كنت أقرأ عليه وأمسح بيده رجاء بركتها».
وروى البخاري عنها أيضا: «أن النبيّ صلى الله عليه وسلم كان إذا أوى إلى فراشه كلّ ليلة جمع كفّيه ثم نفث فيهما فقرأ فيهما قل هو اللّه أحد وقل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس ثم يمسح بهما ما استطاع من جسده. يبدأ بهما على رأسه ووجهه وما أقبل من جسده يفعل ذلك ثلاث مرات».
وروى مسلم والترمذي عن عقبة بن عامر قال: «قال رسول اللّه صلى الله عليه وسلم: ألم تر آيات أنزلت على الليلة لم ير مثلهنّ قطّ قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس».
وروى أبو داود والنسائي عن عقبة أيضا قال: «كنت أقود لرسول اللّه صلى الله عليه وسلم في السفر ناقته فقال لي يا عقبة ألا أعلّمك خير سورتين قرئتا فعلّمني قل أعوذ بربّ الفلق وقل أعوذ بربّ الناس».
وروى الاثنان نفسهما عن عقبة كذلك قال: «بينا أنا أسير مع رسول اللّه صلى الله عليه وسلم بين الجحفة والأبواء إذ غشيتنا ريح وظلمة شديدة فجعل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يتعوّذ بالمعوّذتين ويقول يا عقبة تعوّذ بهما فما تعوّذ متعوّذ بمثلهما قال وسمعته يؤمّنا بهما في الصلاة».
وروى الترمذي بسند حسن عن عقبة أيضا قال: «أمرني رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أن أقرأ بالمعوّذتين في دبر كلّ صلاة».
والمتبادر أن ما احتوته السورتان من بث السكينة والطمأنينة في النفس وتعليم اللجوء إلى اللّه تعالى وحده والاستعاذة به في ظروف المخاوف والأزمات النفسية المتنوعة من الحكمة المنطوية في الأحاديث، وهي حكمة مستمرة الفائدة لاستمرار دواعيها.
بسم الله الرحمن الرحيم
[سورة الفلق: الآيات 1- 5]
{قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَمِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَمِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4) وَمِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ}
(1) {أعوذ}: أحتمي وألتجئ.
(2) {الفلق} أوجه الأقوال أنه فلق الصبح أو الفجر حيث ينفلق من ظلمة الليل.
(3) {غاسق} الليل والظلمة.
(4) {وقب} خيّم أو انتشر.
(5) {النفاثات في العقد} النفث هو النفخ واصطلاحا هو تمتمة السحرة ونفثهم. والعقد جمع عقدة والجملة كناية عن أعمال السحرة والساحرات حيث كانوا يعقدون عقدا في خط وينفثون عليها وهم يتلون تعاويذهم وتمتماتهم حينما كانوا يريدون أن يصنعوا سحرا لأحد بسبيل منعه من عمل أو حمله على عمل أو جعله مريضا إلخ... في آيات السورة تعليم رباني بالاستعاذة باللّه من شرّ ما خلق ومن الظلام اذا انتشر وخيم ومن السحرة ونفثاتهم ومن الحاسدين.
والمتبادر أن ما علّمته السورة يتصل بالمخاوف التي كان العرب يخافونها حين تنزيلها ممتدا إلى ما قبل ذلك.
فقد كانوا يخافون من الظلام ويعتقدون أن الجنّ يظهرون ويتعرضون للناس فيه حتى إنهم كانوا إذا نزلوا واديا بالليل هتفوا مستعيذين ومستجيرين بسكان الوادي من الجنّ ليكونوا في جوارهم وحمايتهم فتطمئن بذلك قلوبهم. وكان عندهم سحرة وساحرات يستعين الناس بهم على تحقيق رغباتهم وشهواتهم، وكان مما يفعله هؤلاء عقد العقد في الخيوط والنفث فيها وتلاوة التعاويذ عليها وكان العرب يعتقدون بنفع ذلك وضرره.
وكانوا يعتقدون بتأثير الحسد وعيون الحاسدين. فإذا كان لأحدهم ولد أو بستان أو دابة محببة فأصيب بعارض مفاجئ فسروه بعين أصابته وحسود حسده.
وعلى هذا فالمتبادر أن الهدف الذي استهدفته السورة هو تثبيت فكرة القدرة الإلهية وشمولها وكون اللّه عز وجل وحده هو النافع والضار، ووجوب عدم الاستعاذة أو الاستعانة بغيره عند ما ينبعث في نفوسهم خوف أو هاجس أو اضطراب، وتلقين كون اللّه هو القادر وحده على تسكين الروع وإدخال الطمأنينة إلى القلب ودفع الضرر وتحقيق النفع ووجوب الالتجاء إليه وحده والاستعاذة به وحده. وهذا مما يتصل بمبدأ أساسي من مبادئ الدعوة وهو الإيمان باللّه وحده ونبذ ما سواه خضوعا وعبادة ودعاء ورجاء.
وننبه على أن السورة ليست بسبيل تقرير قدرة النفاثات في العقد على إيراث النفع والضرر ولا تأثير الحاسد في المال والنفس والولد. ولا يدل مضمونها وأسلوبها على ذلك. وإنما هي كما قلنا بسبيل التعليم والتلقين والتطمين ومعالجة ما هو مستقر في أذهان الناس من بواعث الخوف، ومعالجة روحية بالاعتماد على اللّه وحده والالتجاء إليه وحده.
طائفة من الآيات القرآنية والأحاديث النبوية في الاستعاذة وأهدافها وتلقيناتها ولقد تكرر في القرآن أمر اللّه تعالى للنبي صلى الله عليه وسلم وبالتبعية للمؤمنين بالاستعاذة باللّه مطلقا وبالاستعاذة به من الشيطان أحيانا حينما يحزبهم حازب أو تحدق بهم أزمة أو يشعرون بوسوسة شيطانية تحيك في صدورهم كما تكرر حكاية ذلك عن بعض أنبياء اللّه وعباده الصالحين كما ترى في الآيات التالية:
1- {وَإِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ} الأعراف [200].
2- {قال رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَإِلَّا تَغْفِرْ لِي وَتَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ} هود [47].
3- {فَإِذا قرأتَ القرآن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَعَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ} النحل [98- 99].
4- {قالتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا}.مريم [18].
5- {وَقُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَأَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ} المؤمنون [97- 98].
حيث ينطوي في هذه الآيات توكيد للمعنى الذي نقرره وهو قصد المعالجة الروحية بالاعتماد على اللّه تعالى وحده في ظروف الأزمات والمخاوف المتنوعة في حالاتها وأسبابها، والاستعاذة من الشيطان خاصة متصلة بالحقيقة الإيمانية المغيبة عن الشيطان ووساوسه على ما شرحناه في سياق سورة التكوير شرحا يغني عن التكرار.
ولقد روى الشيخان والنسائي عن أبي هريرة: «أنّ رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من جهد البلاء ودرك الشقاء وسوء القضاء وشماتة الأعداء».
وروى الخمسة عن أنس: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الهمّ والحزن والعجز والكسل والجبن والبخل وضلع الدين وغلبة الرجال».
وروى الترمذي عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم نظر إلى القمر فقال يا عائشة استعيذي باللّه من شرّ هذا فإنّ هذا الغاسق إذا وقب».
وروى الخمسة عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يقول اللهم إني أعوذ بك من الكسل والهرم والمأثم والمغرم ومن فتنة القبر وعذاب القبر ومن فتنة النار وعذاب النار ومن شرّ فتنة الغنى وأعوذ بك من فتنة الفقر وأعوذ بك من فتنة المسيح الدجّال. اللهمّ اغسل عني خطاياي بماء الثلج والبرد. ونقّ قلبي من الخطايا كما نقيت الثوب الأبيض من الدنس، وباعد بيني وبين خطاياي كما باعدت بين المشرق والمغرب».
وروى مسلم والترمذي والنسائي وأبو داود عن زيد بن أرقم قال: «لا أقول لكم إلّا كما كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يقول اللهم إني أعوذ بك من العجز والكسل والجبن والبخل والهرم وعذاب القبر. اللهم آت نفسي تقواها وزكّها أنت خير من زكّاها أنت وليّها ومولاها، اللهم إني أعوذ بك من علم لا ينفع ومن قلب لا يخشع ومن نفس لا تشبع ومن دعوة لا يستجاب لها».
روى أبو داود والنسائي عن أنس قال: «كان النبي صلى الله عليه وسلم يدعو اللهمّ إني أعوذ بك من الهدم وأعوذ بك من التردّي وأعوذ بك من الغرق والحرق والهرم وأعوذ بك أن يتخبّطني الشيطان عند الموت، وأعوذ بك أن أموت في سبيلك مدبرا وأعوذ بك أن أموت لديغا».
وروى المفسر البغوي وهو من أئمة الحديث حديثا رواه بطرقه في سياق الآية [98] من سورة النحل عن مطعم جاء فيه: «إنه رأى النبي صلى الله عليه وسلم يصلي قال فكبّر فقال اللّه أكبر كبيرا ثلاث مرات والحمد للّه كثيرا ثلاث مرات وسبحان اللّه بكرة وأصيلا ثلاث مرات ثم قال اللهمّ إني أعوذ بك من الشيطان الرجيم من همزه ولمزه ونفخه ونفثه».
وإلى هذا فقد روى البخاري ومسلم والترمذي عن عائشة قالت: «كان رسول اللّه صلى الله عليه وسلم إذا مرض أحد من أهله نفث عليه بالمعوّذات. وفي رواية كان إذا اشتكى يقرأ على نفسه بالمعوّذات وينفث».
وروى الترمذي عن أبي سعيد «أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم كان يتعوّذ من الجانّ وعين الإنسان حتى نزلت المعوّذتان فلما نزلتا أخذ بهما وترك ما سواهما».
وعلى كل حال فإن الأحاديث النبوية تتساوق مع التلقين القرآني الذي نوهنا به آنفا.
تعليق على ما روي في صدد نزول السورة ومدنيتها وسحر النبي صلى الله عليه وسلم:
ولقد روى المفسر البغوي عزوا إلى ابن عباس وعائشة أن هذه السورة وسورة الناس بعدها نزلتا معا في مناسبة سحر النبي صلى الله عليه وسلم من قبل ساحر يهودي اسمه لبيد بن الأعصم. ويروي رواية أخرى في ذلك عزوا إلى مقاتل والكلبي جاء فيها أنهما «قالا كان السحر في وتر عقد عليه إحدى عشرة عقدة وقيل كانت العقد مغروزة بالإبرة فأنزل اللّه هاتين السورتين وهي إحدى عشرة آية سورة الفلق خمس آيات، سورة الناس ست آيات كلما قرأ آية انحلت عقدة حتى انحلت العقد كلها فقام النبي صلى الله عليه وسلم كأنما نشط من عقال».
وروى أنه لبث فيه ستة أشهر واشتد عليه ثلاث ليال فنزلت المعوذتان. ويروي هذا المفسر في سياق ذلك عن عائشة: «أن النبي صلى الله عليه وسلم طب حتى إنه ليخيل إليه أنه قد صنع شيئا وما صنعه وأنه دعا ربه ثم قال أشعرت أن اللّه قد أفتاني فيما استفتيته فيه فقالت عائشة وما ذاك يا رسول اللّه قال جاءني رجلان فجلس أحدهما عند رأسي والآخر عند رجلي فقال أحدهما لصاحبه ما وجع الرجل؟ قال الآخر: هو مطبوب.
قال من طبه؟ قال لبيد بن الأعصم.
قال: فبما ذا؟ قال: في مشط ومشاطة وجف طلعة ذكر.
قال فأين هو؟
قال في ذروان- وذروان بئر في بني زريق- قالت عائشة: فأتاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم ثم رجع إلى عائشة فقال واللّه لكأن ماءها نقاعة الحناء ولكأن نخلها رؤوس الشياطين.
قالت: فقلت له يا رسول اللّه فهلا أخرجته؟ فقال: أما أنا فقد شفاني اللّه فكرهت أن أثير على الناس به شرا»
.
وقد قال البغوي بعد هذا الكلام «وروي أنه كان تحت صخرة في البئر فرفعوا الصخرة وأخرجوا جف الطلعة فإذا فيه مشاطة رأسه وأسنان مشطه فيها»..
ويروي هذا المفسر كذلك حديثا عن زيد بن أرقم جاء فيه: «سحر النبي صلى الله عليه وسلم رجل من اليهود. قال فاشتكى لذلك أياما قال فأتاه جبريل فقال إن رجلا من اليهود سحرك وعقد لك عقدا فأرسل رسول اللّه صلى الله عليه وسلم عليا فاستخرجها فجاء بها فكلما حل عقدة وجد لذلك خفة فقام رسول اللّه كأنما نشط من عقال فما ذكر ذلك لليهود ولا رأوه في وجهه قط». وليس في الحديثين صراحة بأن السورتين نزلتا في مناسبة ما ذكر فيهما من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم حيث يبقى ذلك كراوية مستقلة مروية عن ابن عباس وعائشة ومقاتل والكلبي.
وشيء مما ذكره ورواه البغوي وارد في كتب تفسير الخازن والطبرسي والنيسابوري وابن كثير. ومما جاء في تفسير الأخير زيادة عزوا إلى ابن عباس وعائشة أنه كان غلام من اليهود يخدم رسول اللّه صلى الله عليه وسلم فدبت إليه اليهود فلم يزالوا به حتى أخذ مشاطة رأس النبي صلى الله عليه وسلم وعدة من أسنان مشطه فأعطاها اليهود فسحروه فيها وكان الذي تولى ذلك لبيد بن الأعصم وقد مرض رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وانتثر شعره ولبث ستة أشهر يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن وجعل يذوب ولا يدري ما عراه.
ولم يذكر الطبري وهو أقدم المفسرين المطولين الذين وصلت إلينا كتبهم شيئا من ذلك في صدد سخر النبي صلى الله عليه وسلم ولا في صدد نزول المعوذتين. ولم يذكر ذلك الزمخشري ولا النسفي. ويمكن أن يكون هناك مفسرون آخرون لم يذكروه لأننا لم نطلع على جميع كتب التفسير. وليس في فصول التفسير التي عقدها البخاري ومسلم في صحيحيهما شيء من ذلك أيضا مع التنبيه إلى أن هذين رويا حديثا عن عائشة قريبا في نصه إلى ما رواه البغوي وهذا نصه: «قالت سحر رسول اللّه صلى الله عليه وسلم يهوديّ من يهود بني زريق يقال له لبيد بن الأعصم حتّى كان رسول اللّه يخيّل إليه أنه يفعل الشيء وما يفعله حتى إذا كان ذات يوم أو ذات ليلة دعا رسول اللّه ثم دعا ثم دعا ثم قال يا عائشة أشعرت أن اللّه أفتاني فيما استفتيته فيه، جاءني رجلان فقعد أحدهما عند رأسي والآخر عند رجليّ فقال الذي عند رأسي للذي عند رجليّ أو الذي عند رجليّ للذي عند رأسي ما وجع الرجل؟ قال: مطبوب.
قال: من طبّه؟
قال: لبيد بن الأعصم.
قال: في أي شي ء؟ قال: في مشط ومشاطة وجفّ طلعة ذكر.
قال: فأين هو؟ قال: في بئر ذي أروان.
قالت: فأتاها رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في أناس من أصحابه ثم قال يا عائشة واللّه لكأنّ ماءها نقاعة الحنّاء ولكأنّ نخلها رؤوس الشياطين. فقلت يا رسول اللّه أفلا أحرقته قال لا. أمّا أنا فقد عافاني اللّه وكرهت أن أثير على الناس شرا فأمرت بها فدفنت»
.
وفي تفسير الخازن تعقيبا على نص قريب من هذا النص بهذه العبارة: إن للبخاري رواية أخرى ذكر فيها «أن النبي صلى الله عليه وسلم كان يرى أنه يأتي النساء ولا يأتيهن». وأن سفيانا قال إن هذا أشدّ ما يكون من السحر.
وروايات البغوي والطبرسي والخازن والنيسابوري وابن كثير تقتضي أن يلتزموا القول بأن السورتين مدنيتان. غير أنهم لم يفعلوا ذلك فقال البغوي إنهما مكيتان وقيل إنهما مدنيتان.
وقال الطبرسي أكثر الأقاويل أنهما مدنيتان وقيل إنهما مكيتان.
وقال النيسابوري إنهما مكيتان. ولم يذكر ابن كثير والخازن لهما صفة.
أما المفسرون الآخرون فمنهم من لم يصفهما بصفة مثل الطبري ومنهم من قال إنهما مدنيتان. ومنهم من قال إنهما مختلف فيهما مثل النسفي والزمخشري.
ومقتضى سكوت الطبري عمّا روي في صدد سحر النبي صلى الله عليه وسلم ونزولهما في مناسبته أن تكونا مكيتين.
ويلحظ أن المعوذتين ليستا معقودتين على السحر وأثره. وأنهما تعلمان النبي التعوذ من شرّ الظلمات والحاسدين وشرار الخلق والنفاثات في العقد ووساوس الجن والإنس بأسلوب مطلق وعام. وهما مماثلتان لسور عديدة في القصر والتسجيع نزلت في وقت مبكر في مكة ممّا مر منه أمثلة. ومعظم روايات ترتيب النزول تسلكهما في سلك السور المكية المبكرة في النزول أيضا. ونص الأحاديث الواردة في سحر النبي صلى الله عليه وسلم ليس فيه إشارة إلى أنهما في نزلتا في هذه المناسبة ورواية نزول السورتين معا تبعدهما عن حادث السحر المروي وكل هذا يجعل مكيتهما هي الراجحة.
بقي أمر ما ذكرته الأحاديث التي توصف بالصحة من خبر سحر النبي صلى الله عليه وسلم وامتداد ذلك ستة أشهر حتى كان يخيل إليه أنه يفعل الشيء ولا يفعله. وقد صنع شيئا وما صنعه. ويأتي النساء وما يأتيهن فعلا. ولو لم تكن الأحاديث موصوفة بالصحة لكان يمكن أن يقال إن من المحتمل أن يكون الخبر من ذكريات ظرف طرأ على النبي صلى الله عليه وسلم فيه بعض مظاهر تعب وقلق فظن المسلمون أن هذا من تأثير سحر اليهود على ما كان مستقرا في الأذهان من تأثير السحر وعلى ما كان معروفا من عداء اليهود للنبي صلى الله عليه وسلم ومعاطاتهم للسحر مما أيدته آية سورة البقرة هذه: {وَاتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَلكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ} [102] وأن يكون النبي صلى الله عليه وسلم تلا المعوذتين مرة بعد مرة في هذا الظرف فعاد إليه نشاطه وسكون نفسه. ولكنا نقف حائرين أمام الحديث الذي روى واقعة السحر والذي وصف بالصحة.
ويظهر أن هذا الأمر كان موضوع جدل فيما إذا كان للسحر تأثير حقيقي في النبي صلى الله عليه وسلم وفيما إذا كان هذا إذا صح يتسق مع العصمة النبوية حيث يكون إمكان لصدور شيء عن النبي صلى الله عليه وسلم لا يكون وحيا ولا صوابا حيث رأينا الخازن يتعرض لهذه النقطة فيقول فيما يقول: قد أنكر المبتدعة حديث عائشة المتفق عليه وزعم أنه يحط من منصب النبوة ويشكك فيها وأن تجويزه يمنع الثقة بالشرع.
ورد على ذلك بأن هذا الزعم باطل لأن الدلائل القطعية والنقلية قامت على صدقه صلى الله عليه وسلم وعصمته فيما يتعلق بالتبليغ والمعجزة شاهدة بذلك. وتجويز ما قام الدليل بخلافه باطل، وأما ما يتعلق ببعض أمور الدنيا وهو ما يعرض للبشر فغير بعيد أن يخيل إليه من أمور الدنيا ما لا حقيقة له وقد قيل إنه كان يخيل إليه أنه وطئ زوجاته وليس بواطئ وهذا مثل ما يتخيله الإنسان في المنام فلا يبعد أن يتخيله في اليقظة ولا حقيقة له. وقيل إنه يخيل إليه أنه فعله وما فعله ولكن لا يعتقد صحة ما تخيله فتكون اعتقاداته على السواء.
وقال القاضي عياض على ما جاء في تفسير الخازن: وقد جاءت في بعض روايات هذا الحديث مبينة أن السحر إنما سلط على بدنه وظواهر جوارحه لا على قلبه وعقله واعتقاده وليس في ذلك ما يوجب لبسا على الرسالة ولا طعنا لأهل الزيغ والضلالة. ومن الصعب أن يقال إن هذا مقنع ومزيل للحيرة. ويظهر أن هذا الأمر قد أشكل على المفسر الطبرسي فأبى أن يقبله كما هو وقال في سياق تفسير الآية [102] من سورة البقرة إن هذا من الأخبار المفتعلة.
وقال في سياق تفسيره لسورة الفلق إن هذا لا يجوز لأن هذا يجعل وصف المسحور متحققا بالنبي مع أن اللّه تعالى قد أبي ذلك حينما قاله الكفار فيه فقال: {وَقال الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُورًا (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا} الفرقان [8- 9] ثم قال ولكن يمكن أن يكون اليهودي أو بناته على ما روي اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه. وأطلع اللّه نبيه على ما فعلوه من التمويه حتى استخرج وكان ذلك دلالة على صدقه. وكيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم ولو قدروا على ذلك لقتلوه وقتلوا كثيرا من المؤمنين من شدة عداوتهم له.
وكلام الطبرسي قوي ولاسيما احتجاجه برد القرآن عن النبي صلى الله عليه وسلم صفة المسحور كما هو المتبادر.
ومثل هذا القول رواه المفسر القاسمي عن الشهاب عن أبي بكر الأصم الذي قال: إن حديث سحره صلوات اللّه عليه المروي متروك لما يلزمه من صدق قول الكفرة إنه مسحور وهو مخالف لنص القرآن حيث أكذبهم اللّه فيه.
ويروي المفسر القاسمي كذلك عن الرازي عن القاضي أنه قال: هذه الرواية باطلة، وكيف يمكن القول بصحتها واللّه تعالى يقول: {وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ} المائدة [67] و{وَلا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى} طه [69] ولأن تجويز ذلك يفضي إلى القدح في النبوة. ولو صح لكان من الممكن أن يصلوا إلى ضرر جميع الأنبياء والصالحين وأن يحصلوا على الملك العظيم لأنفسهم وكل ذلك باطل. وكان الكفار يعيرون النبي صلى الله عليه وسلم بأنه مسحور فلو وقعت هذه الواقعة لكان الكفار صادقين في تلك الدعوة ولحصل فيه عليه السلام العيب وذلك غير جائز.
وقد عقب القاسمي على هذه الأقوال قائلا إنه لا غرابة في أن لا يقبل الخبر لما برهن عليه وإن كان مخرجا في الصحاح وذلك لأنه ليس كل مخرج فيها سالما من النقد سندا أو معنى كما يعرفه الراسخون. والمناقشة في خبر الآحاد معروفة عند الصحابة. ثم أخذ يورد أقوالا للأئمة الغزالي وابن تيمية والفناري في جواز رد خبر الآحاد وعدم الأخذ به، وخلافه إذا قامت الأدلة عليه.
وفي كل ذلك ما فيه من قوة ووجاهة، وقد أسهبنا في هذه المسألة في طبعة الكتاب الجديدة لأننا رأيناها مهمة يحسن تمحيصها سواء من ناحية وقوعها أو من ناحية صلتها بصفة وعصمة النبوة واللّه تعالى أعلم.
هذا، ولقد روي أن عبد اللّه بن مسعود رضي اللّه عنه أحد كبار أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم وعلماء القرآن كان يحك هذه السورة وسورة الناس من مصحفه ويقول إنهما ليستا سورتين من القرآن وإنما كان النبي صلى الله عليه وسلم يتعوذ بهما ويأمر بذلك.
وقد استوعب ابن كثير الآثار الواردة في هذا الموضوع فأورد أحاديث عديدة رواها الإمام أحمد والبخاري والحافظ بن يعلى عن زر بن حبيش مفادها أن هذا قال لأبي بن كعب- وهو من كبار علماء أصحاب رسول اللّه صلى الله عليه وسلم في القرآن- إن ابن مسعود يحك المعوذتين من المصحف ولا يكتبهما في مصحفه، فأجابه: «أشهد أن رسول اللّه صلى الله عليه وسلم أخبرني أن جبريل قال له قل أعوذ برب الفلق. فقالها. قل أعوذ برب الناس فقالها. فنحن نقول ما قاله النبي صلى الله عليه وسلم».
وأن زرا سأل ابن مسعود فأجابه قائلا: «سألت النبي صلى الله عليه وسلم عنهما فقال قيل لي فقلت لكم فقولوا». وأورد ابن كثير أحاديث عديدة أخرى أخرجها الإمام أحمد ومسلم والنسائي والإمام مالك تفيد أن النبي صلى الله عليه وسلم ذكر المعوذتين في مناسبات عديدة كسورتين قرآنيتين وكان يقرأهما ويأمر بقراءتهما على هذا الاعتبار في الصلاة وغيرها.
والأحاديث التي أوردناها في مطلع السورة صريحة الدلالة على ذلك كما أن الحديث الذي أوردناه في سياق التفسير والذي رواه الترمذي عن أبي سعيد صريح الدلالة على ذلك، ولقد أورد ابن كثير هذا الحديث وقال إن ابن ماجه والنسائي أخرجاه بالإضافة إلى الترمذي.
ولقد روى ابن كثير عن الأعمش قولا جاء فيه أن من المحتمل أن يكون ابن مسعود قد رجع عن قوله إلى قول الجماعة لأن الصحابة أثبتوا السورتين في المصاحف الأئمة وأنفذوها إلى سائر الآفاق. حيث يستخلص من ذلك ثبوت المعوذتين كسورتين قرآنيتين عند جميع المسلمين بالتواتر الذي لم ينقطع منذ عهد النبي صلى الله عليه وسلم. وقد أشار غير واحد من المفسرين إلى هذه المسألة وأورد بعض ما أورده ابن كثير مقتضبا مؤيدا للنتيجة المستخلصة. وقد نقل السيوطي أقوالا للرازي والنووي وغيرهما مؤيدة لهما حتى إن النووي ذهب إلى إنكار ما نسب إلى ابن مسعود ووصفه بأنه باطل. اهـ.